عمّار بن ياسر
رجل من الجنة لو كان هناك أناس يولدون في الجنة، ثم يشيبون في رحابها ويكبرون..
ثم يجاء بهم إلى الارض ليكونوا زينة لها، ونورا، لكان عمّار، وأمه سميّة، وأبوه ياسر من هؤلاء..!!
ولكن لماذا نقول: لو.. لماذا مفترض هذا الافتراض، وقد كان آل ياسر فعلا من أهل الجنة..؟؟
وما كان الرسول عليه الصلاة والسلام مواسيا لهم فحسب حين قال: " صبرا آل ياسر إن موعدكم الجنة"..
بل كان يقرر حقيقة يعرفها ويؤكد واقعا يبصره ويراه..
نشأته رضي الله عنه
خرج ياسر والد عمّار، من بلده في اليمن يطلب أخا له، ويبحث عنه..
وفي مكة طاب له المقام، فاستوطنها محالفا أبا حذيفة بن المغيرة..
وزوّجه أبو حذيفة إحدى إمائه سميّة بنت خياط..
ومن هذا الزواج المبارك رزق الله الأبوين عمارا..
وكان إسلامهم مبكرا.. شأن الأبرار الذين هداهم الله..
وشأن الأبرار المبكّرين أيضا، أخذوا نصيبهم الأوفى من عذاب قريش وأهوالها..!!
ولقد كانت قريش تتربّص بالمؤمنين الدوائر..
فان كانوا ممن لهم في قومهم شرف ومنعة، تولوهم بالوعيد والتهديد، ويلقى أبو جهل المؤمن منهم فيقول له:" تركت دين آبائك وهم خير منك..
لنسفّهنّ حلمك، ولنضعنّ شرفك، ولنكسدنّ تجارتك، ولنهلكنّ مالك" ثم يشنون عليه حرب عصبية حامية.
وان كان المؤمن من ضعفاء مكة وفقرائها، أو عبيدها، أصلتهم سعيرا.
ولقد كان آل ياسر من هذا الفريق..
ووكل أمر تعذيبهم إلى بني مخزوم، يخرجون بهم جميعا.. ياسر، سمية وعمار كل يوم إلى رمضاء مكة الملتهبة، ويصبّون عليهم جحيم العذاب ألوانا وفنونا!!
ولقد كان نصيب سمية من ذلك العذاب فادحا رهيبا. ولن نفيض في الحديث عنها الآن.. فلنا إن شاء الله مع جلال تضحيتها، وعظمة ثباتها لقاء نتحدث عنها وعن نظيراتها وأخواتها في تلك الأيام الخالدات..
وليكن حسبنا الآن أن نذكر في غير كبالغة أن سمية الشهيدة وقفت يوم ذاك موقفا يمنح البشرية كلها من أول إلى آخرها شرفا لا ينفد، وكرامة لا ينصل بهاؤها..!
موقفا جعل منها أمّا عظيمة للمؤمنين في كل العصور.. وللشرفاء في كل الأزمان..!!
كان الرسول عليه الصلاة والسلام يخرج إلى حيث علم أن آل ياسر يعذبون..
ولم يكن آنذاك يملك من أسباب المقاومة ودفع الأذى شيئا..
وكانت تلك مشيئة الله..
فالدين الجديد، ملة إبراهيم حنيفا، الدين الذي يرفع محمد لواءه ليس حركة إصلاح عارضة عابرة.. وانما هو نهج حياة للبشرية المؤمنة.. ولا بد للبشرية المؤمنة هذه أن ترث مع الدين تاريخه بكل تاريخه بكل بطولاته، وتضحياته ومخاطراته...
إن هذه التضحيات النبيلة الهائلة، هي الخرسانة التي تهب الدبن والعقيدة ثباتا لا يزول، وخلودا لا يبلى..!!!
إنها العبير يملأ أفئدة المؤمنين ولاء، وغبطة وحبورا.
وأنها المنار الذي يهدي الأجيال الوافدة إلى حقيقة الدين، وصدقه وعظمته..
وهكذا لم يكن هناك بد من أن يكون للإسلام تضحياته وضحاياه، ولقد أضاء القرآن الكريم هذا المعنى للمسلمين في أكثر من آية...
فهو يقول: (أحسب الناس أن يتركوا، أن يقولوا آمنّا، وهم لا يفتنون)؟!
(أم حسبتم أن تدخلوا الجنة، ولمّا يعلم الله الذين جاهدوا منكم، ويعلم الصابرين)؟
ولقد كانت سميّة.. وكان ياسر.. وكان عمّار من هذه الثلة المباركة العظيمة التي اختارتها مقادير الإسلام لتصوغ من تضحياتها وثباتها وإصرارها وثيقة عظمته وخلوده.. بشارة بالجنة
قلنا إن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يخرج كل يوم إلى أسرة ياسر، محيّيا صمودها، وبطولتها.. وكان قلبه الكبير يذوب رحمة وحنانا لمشهدهم وهم يتلقون العذاب ما لا طاقة لهم به. وذات يوم وهو يعودهم ناداه عمّار:
" يا رسول الله.. لقد بلغ منا العذاب كل مبلغ"..
فناداه الرسول: صبرا أبا اليقظان..
صبرا آل ياسر..
فان موعدكم الجنة"..
ولقد وصف أصاب عمّار العذاب الذي نزل به في أحاديث كثيرة.
فيقول عمرو بن الحكم: " كان عمّار يعذب حتى لا يدري ما يقول".
ويقول عمرو بن ميمون: " أحرق المشركون عمّار بن ياسر بالنار، فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يمر به، ويمر يده على رأسه ويقول: يا نار كوني بردا وسلاما على عمّار، كما كنت بردا وسلاما على إبراهيم"..
فضائله رضي الله عنه
استقرّ المسلمون بالمدينة بعد هجرة رسولهم إليها، وأخذ المجتمع الإسلامي هناك يتشكّل سريعا، ويستكمل نفسه..
ووسط هذه الجماعة المسلمة المؤمنة،أخذ عمار مكانه عليّا..!!
كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يحبه حبا حمّا، ويباهي أصحابه بإيمانه وهديه..
يقول عنه صلى الله عليه وسلم : إن عمّارا ملئ إيمانا إلى مشاشه".
وحين وقع سوء تفاهم بين عمار وخالد بن الوليد، قال رسول الله:" من عادى عمارا، عاداه الله، ومن أبغض عمارا أبغضه الله"
ولم يكن أمام خالد بن الوليد بطل الإسلام إلا أن يسارع إلى عمار معتذرا إليه، وطامعا في صفحه الجميل..!!
عمار رضي الله عنه أول من بنى مسجدا في الإسلام
وحين كان رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه يبنون المسجد بالمدينة اثر نزولهم بها، ارتجز الإمام علي كرّم الله وجهه أنشودة راح يرددها ويرددها المسلمون معه، فيقولون:
يدأب فيها قائما وقاعدالا يستوي من يعمر المساجداومن يرى عن الغبار حائداوكان عمار يعمل من ناحية المسجد فأخذ يردد الأنشودة ويرفع بها صوته.. وظن أحد أصحابه أن عمارا يعرض به، فغاضبه ببعض القول فغضب الرسول صلى الله عليه وسلم قال: " ما لهم ولعمّار..؟
يدعوهم إلى الجنة، ويدعونه إلى النار..
إن عمّارا جلدة ما بين عينيّ وأنفي"...
وإذا أحب رسول الله صلى الله عليه وسلم مسلما الى هذا الحد، فلا بد أن يكون إيمانه، وبلاؤه، وولاؤه، وعظمة نفسه، واستقامة ضميره ونهجه.. قد بلغت المدى، وانتهت إلى ذروة الكمال الميسور..!!
وكذلكم كان عمار..
لقد كال الله له نعمته وهداه بالمكيال الأوفى، وبلف في درجات الهدى واليقين ما جعل الرسول صلى الله عليه وسلم يزكّي إيمانه، ويرفعه بين أصحابه قدوة ومثلا فيقول:
" اقتدوا بالذين من بعدي أبي بكر وعمر... واهتدوا بهدي عمّار"..
وصفه رضي الله عنه
ولقد وصفه الرواة فقالوا:
" كان طوّالا، أشهل، رحب ما بين المنكبين.. من أطول الناس سكوتا، وأقلهم كلاما"..
فكيف سارت حياة هذا العملاق، الصامت الأشهل، العريض الصدر، الذي يحمل جسده آثار تعذيبه المروّع، كما يحمل في نفس الوقت وثيقة صموده الهائل، والمذهل وعظمته الخارقة..؟!
كيف سارت حياة هذا الحواري المخلص، والمؤمن الصادق، والفدائي الباهر..؟؟
لقد شهد مع معلّمه ورسوله جميع المشاهد.. بدرا، وأحدا، والخندق وتبوك.. ويقيّتها جميعا.
ولما ذهب الرسول صلى الله عليه وسلم إلى الرفيق الأعلى، واصل العملاق زحفه..
ففي لقاء المسلمين مع الفرس، ومع الروم، ومن قبل ذلك في لقائهم مع جيوش الردّة الجرارة كان عمّار هناكفي الصفوف الأولى دوما.. جنديا باسلا أمينا، لا تنبو لسيفه ضربة.. ومؤمنا ورعا جليلا، لا تأخذه عن الله رغبة..
وحين كان أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه يختار ولاة المسلمين في دقة وتحفّظ من يختار مصيره، كانت عيناه تقعان دوما في ثقة أكيدة على عمّار بن ياسر"..
وهكذا سارع إليه وولاه الكوفة، وجعل ابن مسعود معه على بيت المال..
وكتب إلى أهلها كتابا يبشرهم فيه بواليهم الجديد، فقال: " أني بعثت إليكم عمّار بن ياسر أميرا.. وابن مسعود معلما ووزيرا..وانهما من النجباء، من أصحاب محمد، ومن أهل بدر"..
ولقد سار عمّار في ولايته سيرا شق على الطامعين في الدنيا تحمّله حتى تألبوا عليه أو كادوا..
لقد زادته الولاية تواضعا وورعا وزهدا..
يقول ابن أبي الهذيل، وهو من معاصريه في الكوفة: " رأيت عمّار بن ياسر وهو أمير الكوفة يشتري من قثائها، ثم يربطها بحبل ويحملها فوق ظهره، ويمضي بها إلى داره"..!!
يوم اليمامة
ويقول له واحد من العامّة وهو أمير الكوفة:" يا أجدع الأذن يعيّره بأذنه التي قطعت بسيوف المرتدين في حرب اليمامة.. فلا يزيد الأمير الذي بيده السلطة على أن يقول لشاتمه:" خير أذنيّ سببت.. لقد أصيبت في سبيل الله"..!!
أجل لقد أصيب في سبيل الله في يوم اليمامة، وكان يوما من أيام عمّار المجيدة.. إذا انطلق العملاق في استبسال عاصف يحصد في جيش مسيلمة الكذاب، ويهدي أليه المنايا والدمار..
وإذا يرى في المسلمين فتورا يرسل بين صفوفهم صياحه المزلزل، فيندفعون كالسهام المقذوفة.
يقول عبد الله بن عمر رضي الله عنهما: " رأيت عمّار بن ياسر يوم اليمامة على صخرة، وقد أشرف يصيح: يا معشر المسلمين.. أمن الجنة تفرّون..؟ أنا عمّار بن ياسر، هلموا إلى.. فنظرت إليه، فإذا أذنه مقطوعة تتأرجح، وهو يقاتل أشد القتال"..!!! ألا من كان في شك من عظمة محمد الرسول الصادق، والمعلم الكامل، فليقف أمام هذه النماذج من أتباعه وأصحابه، وليسأل نفسه: هل يقدر على إنجاب هذا الطراز الرفيع سوى رسول كريم، ومعلم عظيم؟؟ إذا خاضوا في سبيل الله قتالا اندفعوا اندفاع من يبحث عن المنيّة، لا عن النصر..!!
وإذا كانوا خلفاء وحكّاما، ذهب الخليفة يحلب شياه اليتامى ، ويعجن خبز اليتامى.. كما فعل أبو بكر وعمر..!!
وإذا كانوا ولاة حملوا طعامهم على ظهورهم مربوطا بحبل.. كما فعل عمّار.. أو تنازلوا عن راتبهم وجلسوا يصنعون من الخوص المجدول أوعية ومكاتل، كما صنع سلمان..!!
ألا فلنحن الجباه تحيّة وإجلالا للدين الذي أنجبهم، وللرسول الذي ربّاهم.. وقبل الدين والرسول، الله العليّ الكبير الذي اجتباهم لهذا كله..
وهداهم لهذا كله.. وجعلهم روّادا لخير أمة أخرجت للناس..!!
مرحبا بالطيّب المقدام
وكانت المؤامرات ضدّ الإسلام تعمل عملها المستميت، وتحاول أن تربح بالغدر وإثارة الفتن ما خسرته في الحرب..
وكان مقتل عمر أول نجاح أحرزته هذه المؤامرات التي أخذت تهبّ على المدينة كريح السموم من تلك البلاد التي دمّر الإسلام ملكها وعروشها..
وأغراها استشهاد عمر على مواصلة مساعيها، فألّبت الفتن وأيقظتها في معظم بلاد الإسلام..
ولعل عثمان رضي الله عنه، لم يعط الأمور ما تستحقه من الاهتمام والحذر، فوقعت الواقعة واستشهد عثمان رضي الله عنه، وانفتحت على المسلمين أبواب الفتنة.. وقام معاوية ينازع الخليفة الجديد عليّا كرّم الله وجهه حقه في الأمر، وفي الخلافة...
وتعددت اتجاهات الصحابة.. فمنهم من نفض يديه من الخلاف وأوى إلى بيته، جاعلا شعاره كلمة ابن عمر:
" من قال حيّ على الصلاة أجبته...
ومن قال حيّ على الفلاح أجبته..
ومن قال حيّ على قتل أخيك المسلم وأخذ ماله، قلت: لا؟..
ومنهم من انحاز إلى معاوية..
ومنهم من وقف إلى جوار عليّ صاحب البيعة، وخليفة المسلمين..
ترى أين يقف اليوم عمّار؟؟
أين يقف الرجل الذي قال عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم: " واهتدوا بهدي عمّار"..؟
أين يقف الرجل الذي قال عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم: " من عادى عمّارا عاداه الله"..؟
والذي كان إذا سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم صوته يقترب من منزله قال: " مرحبا بالطيّب المقدام، ائذنوا له"..!!