براءة الأم
عندما يسيطر الجشع والطمع علي عقل التاجر، ويتهم أمه وشغالته بقتله وزوجته بالسم فهذا عقوق للوالدين ، لكن المحكمة الكلية برأت الأم من الحبس عامين!
فوجئ ضابط المباحث برجل جاوز الأربعين من عمره يستأذن في دخول مكتبه ، فأذن له وسأله عن سبب حضوره 00
- أجاب :حضرت لأقدم بلاغا ضد أمي التي تقيم معي بنفس المنزل
- ذهل الضابط من الرد وكرر سؤاله ضد أمك العجوز
- نعم يا حضرة الضابط ، وأخرج منديلا من ملابسه وجفف بها دموع التماسيح المصطنعة على عينيه ، وبدأ يدلي ببلاغه 00
- قال : أمي أرادت أن تنهي حياتي أنا وزوجتي 0. وضعت السم لنا في الطعام والنتيجة أنني أصيب بشلل بسيط بذراعي اليسرى أما زوجتي فترقد فى الفراش بعد أن أصيبت بمرض احتار الأطباء في تشخيصه 00
- ينهض الضابط من مقعده في حيرة00 أمك فعلت هذا كله ، كيف فعلت ذلك ، وما هو الدليل على صحة أقوالك، وما عملك ؟00
- عملي : تاجر وامتلك مخبزا بلديا بمنطقة إمبابة.. وقد أبلغتني الخادمة التي تربت في منزلي منذ صغرها بما فعلته أمي قالت لي : إن أمي أعطتها مادة حمراء وقالت لها : هذه بركة من أرض الحجاز ، ضعيها لابني في طعامه حتي يهديه الله ويزيد من ماله ويوفق بينه وبين أشقائه ، وحينما ضغطت علي الشغالة اعترفت بهذه الواقعة بل كانت المفاجأة أنني اكتشفت أن هذه المادة الحمراء ما هي إلا دم حيض فاسد 00والآن يا حضرة الضابط زوجتي بين الحياة والموت أرجوك ماذا أفعل ؟ ..
إنها أمي صاحبة الفضل عليّ وتتساقط بعض الدموع من عيون التاجر، وهو يطلب القصاص من أمه ويتم تحرير محضر بالواقعة، و يجئ دور النيابة00
تقف الأم أمام وكيل النيابة، امرأة جاوزت الثمانين عاما 00علامات الزمن ، واضحة علي قسمات وجهها00 تتكئ علي عصي وتمشي بصعوبة 00 وحينما وجه إليها وكيل النيابة السؤال التالي .. لماذا حاولت بمساعدة الشغالة قتل ابنك وزوجته بالسم ؟0
- سقطت الدموع من عيني الأم بغزارة شديدة ولطمت خديها وقالت: لا توجد أم في الدنيا تحاول قتل ابنها وفلذة كبدها إلا إذا كان ابن حرام00 وتعود الأم بذاكرتها إلي الوراء وهي تلتقط أنفاسها ، وتقول سيدي المحقق : لقد رزقني الله بثلاثة أولاد وبنتين وبعد رحيل والدهم ترك لهم ثروة من العقارات والأراضي الزراعية, والمخبز الذي يديره ابني الذي اتهمني بقتله .. وابني هذا معروف عنه الجشع والطمع منذ صغره, فكان دائما يتشاجر مع أشقائه وهم أطفال ويخطف ما بيدهم , ويضربهم 00 عنده حب شديد وأنانية مفرطة لنفسه ، وشاركته زوجته هذا الداء اللعين ، وحينما مات والدهم حدثت المشاجرات بين الأولاد علي الميراث وأراد ابني العاق أن يأخذ نصيب الأسد، وهذا ليس من حقه 00وبدأ يقلب أشقاءه على بعضهم ويضع بينهم الدسائس، ويحرضهم من وراء بعضهم ،حتى يتركوا له المخبز، ولكنني وقفت له بالمرصاد، أردت أن أطبق شرع الله فى أولادي فجمعت أعمامهم وأخوالهم في جلسات عائلية لتقسيم الميراث ، ولكن عقوق ابني كان دائما يفشل هذه الجلسات العائلية، حتى زوجته كثيرا ما اعتدت عليّ بالسب00
- يقاطعها وكيل النيابة قائلا : لماذا لم تحرري محضرا بقسم الشرطة ضدها فهذا حقك ؟
- تبتسم العجوز وهي تقول له : حرام يا بيه الأم دائما هي التي تتحمل عقوق أبنائها وزوجاتهم .. لقد حاول أولادي الآخرون الفتك بهما ، ولكنني وقفت ضدهم بل ونهرتهم ، فالدم عمره لا يبقي ماء00 والظفر لا يطلع من اللحم ، ثم تستطرد في ردها علي وكيل النيابة وتكمل أقوالها وتقول : لم تفلح الجلسات العائلية في عدول ابني العاق عن محاولاته فى التهام نصيب أشقائه في الميراث فلجأت زوجته لهذه الحيلة الشيطانية00 فذات يوم بعد تناول ابني وزوجته الطعام فوجئت بها تمسك بطنها، وتصرخ بأعلي صوتها وتستغيث بأنها علي وشك الموت ، ولحظتها هرع ابني بزوجته للمستشفي وحررا محضرا ضدي00واتهمنى بأنني وضعت لهما السم في الطعام 00وأنا يا حضرة وكيل النيابة بريئة وأيضا الشغالة من هذه التهمة البشعة وتوقع الأم علي أقوالها وتنصرف من النيابة 00
ويجئ دور الشغالة حينما يسألها وكيل النيابة عن اسمها وعمرها، ولماذا وضعت السم في الطعام لمخدومها وزوجته ؟0
- تنهار الشغالة التي لم تتجاوز العشرين من عمرها ، وتلطم خديها وتقسم بأغلظ الأيمان أنها لم تفعل هذا مطلقا 00
- يسألها وكيل النيابة : أنت متهمة بوضع السم في الطعام لهما ؟0
- لا .. يا بيه ،لم أفعل ذلك مطلقا ،وإنما الذي حدث بالضبط أن أمي الحاجة والدة التاجر الذي أخدم عنده، كانت تحرضني فقط علي سرقة أمواله بحجة أنه بخيل وهي تنفقها في أوجه الخير00 هذا ما حدث مني00
- سؤال : كيف كنت تسرقين الأموال ؟
- الحاج كان يضع أمواله في حقيبة كبيرة بالمنزل ،وهو كان يستأمنني علي كل شيء، لأنني منذ صغري أخدم عندهم،فكنت أتحين فرصة عدم وجودأى أحد في المنزل ، وأتسلل إلي الحقيبة وأسرق المبلغ التي تطلبه مني الحاجة والدته فقط 00
يتفحص وكيل النيابة القضية وأقوال الأم والشغالة ويتم إخلاء سبيلهما بضمان مالي بعد أن يتم عرض التاجر وزوجته علي الطب الشرعي لبيان نوعية السم 00
تعود الأم والشغالة للمنزل لتجد زوجة ابنها المسمومة تقف في شرفة المنزل في أبهى زينتها كأنها عروس ليلة زفافها تنظر إليها وهي تقول لها : الله ينتقم منك00
- ترد زوجة الابن بابتسامة صفراء وهي تقول لحماتها : سأظل وراءك أنا وابنك حتي استولي علي كل الميراث ولن أترك لأولادك الآخرين شيئا 00
- تنفعل الأم العجوز وهي تتحدي زوجة ابنها قائلة لها : نجوم السما أقرب لك وإن شاء الله سيخيب ظنك وتغلق علي نفسها باب حجرتها ، بينما الشغالة تلملم ملابسها وترحل من المنزل وهى تبكى بحرقة شديدة00
في المساء تجتمع الأسرة كلها بجوار الأم العجوز ومعهم بعض الأعمام والأخوال وتنعقد جلسة عائلية لمحاكمة الابن العاق الذي اتهم أمه بقتله وزوجته ، ويقف الابن العاق متحديا الجميع في جبروت القائد المنتصر ، بينما انزوت زوجته في الحجرة فهي كالثعبان يلدغ ثم يعود لجحره ، ويصر الابن العاق علي عناده ويقول للجميع سوف أظل وراءكم في المحاكم حتي تتركوا لي كل شيء00 ويقف عمه ويعنفه ويقول له : حرام عليك ما فعلته مع أمك العجوز، هل هذا بر الوالدين ويشيح الابن العاق برأسه ثم يودع الجميع للجلوس علي المقهى وتقرر الأسرة تكليف أحد المحامين للدفاع عن الأم والشغالة أمام المحكمة 00
مضي عدة أيام وعقل زوجة الابن العاق يفكر في كيفية حبس الأم، ذهبت لأحد أقاربها المحامين وطلبت استشارته ، وخطط لها بأن توهم حماتها بأنها تنازلت عن بلاغها في النيابة ولا داعي للمحاكم وعفا الله عما سلف00 وفعلا تتسلل الزوجة فى جنح الليل إلي حجرة حماتها وهي تبكي بشدة وتستسمحها أن تصفح عنها ، فالشيطان شاطر وتغلب عليها.. وتقول لها : يا أمي( الشيء اللي انكسر يصلح) .. وعلي العموم هذا ابنك وقد قمت أنا وهو بتحرير محضر صلح00 وكل شئ انتهى00 وأطلب منك الصفح عنه00 وكفى ما حدث وما تفعلينه أنا موافقة عليه00وتبتلع الأم الطعم،وتزف الخبر لأبنائها وتدعوهم جميعا لجلسة صلح00 وتوصيهم علي البر والرحمة فيما بينهم .. وبدأ الابن العاق وزوجته يغيران من معاملتهما للأم العجوز حتي يضمنا حكم المحكمة الجزئية لصالحهم00
ذات صباح كانت الأم العجوز تجلس أمام المنزل في شمس يوم بارد ، وفوجئت بشخص يقف أمام المنزل وينادي علي اسمها وعلي اسم الشغالة التى تركت المنزل نهضت واقفة وسألته : أنت تنادي علي اسمي واسم الشغالة التي كانت تعمل عندنا، ثم رحلت ، أنت محتاج شيء 00
- لا يا أمي أنا مخبر سري من قسم الشرطة 00
- تنزعج الأم وهي تضغط بيدها علي صدرها بشدة .. فيه حاجة مهمة ضدي
- نعم يا حاجة لقد صدر حكم من المحكمة الجزئية بحبسك أنت والشغالة عامين لمحاولتكما قتل ابنك وزوجته00
- تلطم العجوز خديها وهي تقول للمخبر: لقد قالت لي زوجة ابني العاق أنهما تنازلا عن المحضر 00
- لا يا حاجة هذا حكم غيابي ويجب عليك استئنافه 00
تسلمت العجوز صورة الحكم وأسرعت نحو ابنها الموظف الطيب، وأخبرته بما فعله شقيقه وزوجته واجتمع الأشقاء وقرروا أن يستأنفوا الحكم أمام المحكمة الاستئنافية، وقام المحامي بالمعارضة في الحكم وتدوولت القضية في عدة جلسات والأوراق تؤكد إدانة الأم، واعتراف الشغالة بالسرقة يؤكد إدانتها ، وظل المحامي يطلب تأجيل القضية حتي ورود تقرير الطبيب الشرعي، وعندما حجزت القضية للحكم ظهرت المفاجأة00 براءة الأم والشغالة من تهمة القتل فقد أثبت تقرير الطبيب الشرعي أن المادة الموجودة في جسد التاجر وزوجته كمية بسيطة من الرصاص قد تكون ناتجة عن عادم سيارات أو بويات وهي نسبة عادية في جسد معظم الناس بسبب التلوث00 وتقضي المحكمة ببراءة الأم وحبس الشغالة لأنها اعترفت بالسرقة، وثبت من التحقيقات أن الأم العجوز لم تحرضها علي شيء وأن الشغالة افتعلت هذه القصة لكي تنجو بنفسها من تهمة القتل00
- حيثيات الحكم تقول : إن الشغالة اعترفت بالسرقة، وهذا الاعتراف يدينها أمام المحكمة وعند تضييق الخناق عليها اعترفت بتحريض التاجر لها والإغداق عليها بالمال حتي تعترف بالقصة الوهمية ضد والدته وتذهب الشغالة للسجن بينما تعود الأم إلي منزلها سعيدة وتقول لزوجة ابنها : أنا لك بالمرصاد ثم ترفع يديها للسماء وتشكر الله علي البراءة